أخبار الخليج - الثلاثاء 23 ديسمبر 2008
- العدد 11232
نصف مليون إجازة مرضية خلال عام
والمعنيون يؤكدون: القانون وبيئة العمل.. هما السبب
!
-
تحقيق - محمد الساعي
:
لأول مرة في البحرين.. بل في المنطقة، طبق نظام لرصد الإجازات المرضية ضمن مشروع تحسين
إصدار الشهادات الطبية والمرضية. ولأول مرة أيضا تم تضمين نتائج هذا الرصد في التقرير
السنوي وإحصائيات وزارة الصحة.
ولكن.. الأرقام التي تم التوصل لها لا يمكن أن تمر من
دون توقف وتمعن، فالإحصاءات تشير إلى منح حوالي نصف مليون إجازة مرضية خلال عام 2007،
في الوقت الذي أكدت الوزارة في تصريحات سابقة أن هناك توجهات للتشديد على منح هذه الإجازات.
والغريب أن هناك تفاوتا بين المناطق والمراكز الصحية، ففي حين بلغ عدد زيارات المرضى
في المنطقة الصحية الأولى 745،632 زيارة حصل منها 458،71 فقط على إجازة مرضية، كان
نصيب المنطقة الصحية الثانية 146،518 زيارة حصل منها 237،155 على إجازة مرضية، أي أن المنطقة الثانية اقل في عدد الزيارات ولكن أكثر
من الضعف في عدد الإجازات.
فما الذي يفسر هذا التفاوت؟ ألا يؤثر هذا الكم المترهل من
الإجازات على العمل وعلى الإنتاجية بشكل عام؟ من يتحمل مسئولية هذا التزايد في أعداد
الإجازات، وماذا عملت وزارة الصحة بعد أن وُضعت أمامها الأرقام والإحصاءات الدقيقة
التي جاءت نتيجة مشروع متطور لا يتوقف لحظة طوال العام؟ بداية التطوير هذه التساؤلات
عرضناها على الوكيل المساعد للتدريب والتخطيط بوزارة الصحة الدكتور فوزي أمين الذي
فتح في نقاشاته آفاقا متعددة ترتبط مباشرة بالمشكلة، وربما لم يلتفت إليها الكثيرون.
بداية يعود بنا الدكتور فوزي أمين إلى سنوات مضت حينما كانت المشكلة أكثر تفاقما خاصة
مع تعدد نماذج الشهادات المستخدمة وعدم وجود نظام موحد لموظفي القطاعين العام والخاص،
وعدم وجود نظم معلومات خاصة بالشهادات والإجازات المرضية، الأمر الذي ساهم في وجود
حالات كثيرة من تزوير مثل هذه الشهادات، والمشكلة الأكبر كانت عدم معرفة حجم المشكلة
من الأساس.
لذلك - يقول محدثنا - وحينما كنت مسئولا عن المراكز الصحية عام 2002 بدأ
التفكير في مشروع لتنظيم العملية وهو ما عرف بمشروع تحسين إصدار الشهادات الطبية والمرضية،
حيث كان هناك رصد للبيانات والمراجعين والأدوية وغيرها ولكن لم تكن الإجازات ترصد،
حتى داخل الوزارة كانت هناك أربعة أو خمسة نماذج لاستمارات الإجازات، الأمر الذي سمح
بكثير من التلاعب في الوقت الذي تعتبر أيام الإجازات المرضية أياما مدفوعة الأجر من
قبل صاحب العمل، وهنا تم تشكيل لجنة ضمت أصحاب العلاقة ممثلين عن وزارة العمل وديوان
الخدمة وغرفة التجارة واللجنة العامة لعمال البحرين وإدارة المراكز الصحية وأطبائها،
وبدأت اللجنة تدرس كل ما يتعلق بالإجازات المرضية مع فرض نوع من المراقبة لإصدارها،
وكانت الخطوة الأولى بتوحيد الشهادات ثم أدخلنا نظام رصد في جميع المراكز الصحية، وكان
الهدف من المشروع إنشاء قاعدة بيانات متكاملة، واستعمال شهادة موحدة للقطاعين العام
والخاص والحد من الاستعمال الخاطئ في إصدار الشهادات، وفعلا استطعنا ولأول مرة هذا
العام أن نضمّن بيانات الإجازات المرضية في التقرير السنوي وهذا ما يساعدنا على المراقبة
ومعرفة التفاوت بين المراكز والمناطق ومن ثم اتخاذ الإجراءات اللازمة.
نحن من يدفع
الثمن بعد هذه المقدمة التاريخية الموجزة يدخل الدكتور فوزي في صلب الإشكالية مذّكرا
بأن الإجازة المرضية حق قانوني للموظف والعامل في القطاعين، وكل شخص له في التقدير
يومان في الشهر، ولكن التفاوت الموجود هو أن أنظمة ديوان الخدمة المدنية تسمح بأن يحصل
الموظف على إجازة يوم واحد بالاتصال بمسئوله، أي لا يتطلب إحضار شهادة من طبيب، في
حين ان قانون العمل - وهو المرتبط بالقطاع الخاص - ينص على أن الإجازة يجب أن تصدر
من طبيب، وهنا - يتابع الدكتور فوزي - تبرز مشكلة أخرى وهي انه من الصعب تشخيص المرض
بدقة في إجازة اليوم الواحد، فالإجازة الطويلة لعملية أو مرض مزمن أو أعراض ظاهرة تكون
أسهل بكثير، ولكن عندما يأتي المريض ويقول ان ظهره أو بطنه يؤلمه من الصعب على الطبيب
أن يتحقق من صحة ذلك في نفس اللحظة، لذلك نجد أن المراكز الصحية التي فيها عمال أو
المراكز القريبة من المناطق الصناعية فيها أعلى المعدلات في طلب الإجازات المرضية،
ومثال ذلك مركز الرازي الذي يخدم الشركات التي تضم أكثر من 50 عاملا وليس لديها عيادة
خاصة نجده يمثل أعلى معدلات الإجازات، بمعنى أن معظمهم يأتون للمركز بهدف الإجازة،
وهنا لا يمكن إلقاء اللوم على الوزارة فقط في منح الإجازات، فهناك ثلاثة أطراف تشترك
في العملية وهي أصحاب العمل وتمثلهم غرفة التجارة، والعمال ويمثلهم الاتحاد، والطاقم
الطبي الذي يمثل الوزارة، وطبيعة النظام الحالي المتبع يخلق على الوزارة ضغطا كبيرا
لان شهادة الطبيب هي الطريقة الوحيدة للحصول على الإجازة المرضية في القطاع الخاص بعكس
القطاع العام الذي يمكن للموظف أن يستأذن من المسئول فقط لذلك اقترحنا أن يطبق نفس
هذا الإجراء حتى في القطاع الخاص بأن يستطيع العامل إبلاغ مسئوله، ولكن اتحاد العمال
كان عنده تحفظ بسبب التخوف من عدم تعاون أو تجاوب أصحاب العمل بحيث لا يسمحون للعامل
بأخذ إجازة
مرضية، ومن ثم فإن النظام الحالي هو ما يدفع العمال بشكل خاص إلى التوجه للمراكز طلبا
للإجازات، لذلك نجد في الوقت الذي بلغ عدد زيارات المرضى لمركز المحرق حوالي 300 ألف
عام 2007، كان عدد الإجازات المرضية التي أصدرت في نفس المركز حوالي 31 ألفا، أي بنسبة
واحد إلى عشرة، في حين ان مركز الرازي الذي يستقبل العمال بلغ عدد الزيارات 131 ألفا،
وعدد الإجازات 103 آلاف، أي حوالي نسبة واحد إلى واحد، وكأن كل عامل يدخل المركز يخرج
بإجازة، وكما ذكرت طبيعة النظام هو ما يدفع لهذا الضغط على المركز لأنهم لا يستطيعون
الحصول على إجازة مباشرة، في حين ان اتباع نظام ديوان الخدمة في هذا المركز مثلا قد
يساعد على توفير 100 ألف زيارة في العام، وهذا يعني توفير الضغط على عشرة أطباء، وخلال
بحثنا عن تجارب دول أخرى وجدنا في بريطانيا مثلا أن الإجازة المرضية التي تقل عن خمسة
أيام لا تتطلب شهادة طبية، في حين ان إجازة اليوم الواحد تتطلب ذلك عندنا. إذن نحن
من يدفع ثمن الوضع الحالي. صادق.. حتى يثبت العكس
* لا ننكر حجم الضغط على الوزارة،
ولكن ألا توافقني بأن هناك تساهلا في منح الإجازات من قبل الأطباء؟
** ليس تساهلا،
ولكن في الحقيقة أن الطبيب يقع في موقف صعب، فمن الناحية الأخلاقية لا يمكن أن يكذّب
المريض، وليس لديه دليل على ذلك، ولا يمكننا أن نعامل كل من يأتي للمركز على انه مدع
أو مستغل أو غير صادق، بمعنى أن المريض صادق حتى يثبت العكس، فنحن لا نريد أن نظلم
أناسا يستحقون الإجازة فعلا، وبالتالي لا يستطيع الطبيب أن يرفض شكوى أي مريض خاصة
مع ما ذكرته قبل قليل من صعوبة تشخيص الأمراض العاجلة، كما أن المريض يطلب حقا قانونيا،
وهو من يتحمل عواقبه لأنه لو استنفد إجازاته المرضية القانونية واحتاج إلى يوم إجازة
مرضية ضرورية ستخصم من إجازته السنوية، لذلك أنا لا اشك في وجود تلاعب من قبل البعض،
بل ان هناك حالات تم فيها الاعتداء على الطبيب عندما رفض منح الإجازة فيما يصر المريض
على انه يستحقها، فماذا يفعل الطبيب وخاصة انه لا يدري كم عدد الإجازات التي أخذها
هذا العامل أو ذاك، ومن يعلم ذلك هو رب العمل، وهذا يقودنا إلى مسألة هامة وهي أن أصحاب
العمل وقبل أن يشتكوا من كثرة الإجازات المرضية يجب أن يبحثوا عن أسباب هذا الطلب المتزايد
على الإجازات، فبالتأكيد هناك أسباب تجعل العامل يسعى إلى التهرب أو التلاعب، في حين
ان هناك حالات عندما يريد الطبيب أن يمنحها إجازة يسأل المريض ما إذا كان بالإمكان
اخذ الدواء ومواصلة العمل، وهذا يعكس حجم الراحة والإخلاص في العمل.
لذلك الفكرة التي
أريد أن أوصلها هو أننا لا نستطيع ألا نثق في المريض، والإجازة أمر قانوني، والمريض
الذي يتمارض أو يدعي المرض هو مسئولية صاحب العمل الذي يفترض أن يراقبه ويعرف مدى تكرر
هذا التلاعب ثم عليه إصلاح بيئة العمل، ودعني هنا اضرب لك مثالا وتجربة واقعية، ففي
دراسة أجريناها على موظفي وزارة الصحة وجدنا أن أعلى نسبة للإجازات المرضية كانت في
مغسلة السلمانية، حيث طبيعة العمل صعبة نوعا ما والجو حار وساعات الدوام طويلة، فعمدنا
إلى تحسين هذه البيئة قدر الإمكان، وبسرعة لمسنا انخفاضا في عدد الإجازات المرضية،
وهذه التجربة قدمناها للشركات كنموذج يؤكد أن تحسين بيئة العمل يساهم بشكل كبير في
انخفاض الإجازات المرضية.
* بشكل عام.. هل تجد الرقم (نصف مليون إجازة) مشكلة حقيقية
في البحرين، وهل يحمل انعكاسات سلبية على العمل بشكل خاص؟
** أولا أود أن أشير إلى
أن هذا الرقم يتعلق فقط بالإجازات التي تمنح من المراكز الصحية الحكومية، أما لو جمعنا
الإجازات في المستشفيات الخاصة والمستشفيات الكبرى وإجازات العمليات وغيرها فقد يصل
الرقم إلى 800 ألف إجازة في العام، ولكن أيا كان الرقم فإنه من الصعب أن نحكم عليه
لأنه لا توجد أرقام أخرى للمقارنة خاصة في منطقة الخليج، فلا يوجد حتى الآن في دول
الجوار نظام رصد للإجازات المرضية كما هو الحال في البحرين، بل تتبع هذه الدول نفس
النظام السابق الذي كنا نعتمده، لذلك أقولها بفخر ان هذا النظام (صنع في البحرين)،
حتى ان بعض الأشقاء الخليجيين طلبوا الاستفادة من التجربة، وبالتالي لا يوجد مقياس
نقيس عليه هل هو رقم معقول أم كبير، وربما نجد الرقم اكبر بكثير في دول أخرى، ولكن
طالما انك وضعت قانونا يلزم اللجوء للمراكز الصحية فهو في تصوري رقم طبيعي ولا ننظر
إليه كمشكلة بقدر ما هو ضغط على الوزارة يمكن أن نتلافاه، أي أننا حاليا ندفع ثمن هذا
النظام من دون داع. كما أن هذا الرقم يجب ألا يجعلنا نتصور أن هناك تسيبا في
البحرين أو عدم رغبة في العمل، ومن الأفضل هنا لكل شركة أن تعمل هي إحصاءات وتعرف كم
نسبة الإجازات وكم عدد العمال الذين حصلوا عليها، وهذا يساعد على تعديل الأوضاع ومعرفة
الإنتاجية وإصلاح بيئة العمل. التوعية
* أشرت غير مرة إلى أن طبيعة النظام في القطاع
الخاص هي ما يوصلنا إلى هذا الوضع، هل يعني ذلك أن الوضع في القطاع العام أفضل؟
** أيضا ليس لدينا الدليل على ذلك لان الموظف في القطاع العام لا يحصل على الإجازة من
المركز وبالتالي ليست لدينا إحصاءات عن عدد الإجازات في هذا القطاع، ولكن ما يمكنني
تأكيده هو أن طبيعة النظام أفضل لأنها لا تسبب ضغوطا وأعباء على الوزارة، كما المسئول
أو صاحب العمل اقدر على معرفة مدى حاجة الموظف للإجازة وما إذا كان حصوله عليها بشكل
متكرر أو انه يتلاعب في ذلك.
* ذكرت أن إحدى مشاكل المراحل السابقة كانت عدم معرفة
حجم المشكلة وعدم توافر البيانات الكافية، الآن وقد توافرت كل هذه المعلومات ما هي
الخطوة القادمة؟
** بالفعل استطعنا الآن أن نعرف حجم المشكلة ونسبة الإجازات في كل
مركز، ولكن للأسف أقول انه طالما بقي النظام الحالي متبعا فإنه لا يمكن التحكم في المشكلة
بشكل كبير، فمن ناحيتنا يمكننا أن نتعامل مع المشكلة مع التركيز على السرية التامة
خاصة مع الأطباء، حيث لدينا معلومات حتى عن عدد الإجازات التي أصدرها كل طبيب مع الأخذ
بالاعتبار طبيعة المرضى لكل طبيب وموقع المركز الذي يعمل فيه، فمثلا اتضح أن بين كل
ست زيارات لمرضى يحصل واحد منهم على إجازة، وإذا استثنينا مركز الرازي تصبح النسبة
واحدا إلى ثمانية لان الرازي كما أشرت تقترب النسبة فيه من واحد إلى واحد، وهذه الأرقام
والمعلومات تساهم في تحسين الوضع، ولكن مهما عملنا وشددنا فإن العلاج ليس بيدنا وحدنا،
فالخطوة الأولى هي إصلاح بيئة العمل التي تجعل العامل يلجأ إلى الإجازة هروبا من العمل.
وما نركز عليه نحن حاليا هو التوعية خاصة في مواقع العمل وتبيان أن الشهادة التي تصدر
هي وثيقة تلزم العامل وتؤثر حتى على مستقبله، فأي رب عمل من الطبيعي أن يختار ويرقي
الموظف الملتزم ويتجاهل من يحفل سجله بإجازات مرضية، فالأمر أشبه بتوجيه المدخنين،
أي ننصحهم ونبين لهم خطورة التدخين ولكننا لا نستطيع إلزامهم بتركه، والطبيب يقوم بهذا
الدور التوعوي لمن يتكرر طلبه للإجازة، وعندما يتيقن من عدم صدق المريض لا يمنحه إياها،
ولكن عندما لا يستطيع إثبات ذلك، وعندما يجعله النظام المتبع هو من يتحمل المسئولية،
فإنه لا يملك إلا أن يصدق المريض ويمنحه حقه القانوني. ومرة أخرى أعيد التأكيد ان العلاج
ليس بيدنا لان العملية مترابطة، وأساس الأمر في التشريع والنظام المتبع وبيئة العمل.
مشروع ضخم قادم يختتم الدكتور فوزي أمين بتأكيد أهمية الاستفادة من هذا النظام الذي
اعتمدته وزارة الصحة من خلال تعاون جميع الأطراف للحد من الإشكالية، مشيرا إلى أن الوزارة
تعمل على مشروع آخر وهو نظام الكتروني متكامل يغني عن الأوراق والملفات الطبية مما
يقلل حتى من نسب وقوع الأخطاء الطبية خاصة في صرف وصفات العلاج، حيث يكون أمام الطبيب
معلومات متكاملة عن حالة كل مريض أمامه منذ ولادته، وعندما يصف للمريض دواء قد لا يتناسب
مع دواء آخر كان قد وصف له من قبل فإن الجهاز نفسه ينبه الطبيب إلى ذلك، كما يساعد
هذا النظام على تحديد الجرعة المناسبة للمريض وفقا للحالة، ويمكن أيضا إدخال كل المعلومات
الطبية في العالم في هذا النظام بحيث يكون أمام الطبيب مرجع طبي كامل، ونفس الأمر بالنسبة
للإجازات، حيث تصدر الكترونيا وبالتالي يتمكن الطبيب من معرفة سجل المريض في هذا الجانب.
ولا يقتصر هذا المشروع على المستشفيات الحكومية وإنما يشمل أيضا القطاع الخاص مما يوفر
رصدا متكاملا للمعلومات في البحرين، ومن المتوقع أن يبدأ دخول النظام في الوزارة عام 2010.
25% فقط الوكيل المساعد للتخطيط والتدريب بوزارة الصحة رمى الكرة بشكل كبير في ملعب
أصحاب الأعمال باعتبار أن بيئة العمل هي ما تدعو إلى مثل هذا التلاعب في طلب الإجازات،
وهنا سؤال هام: ألا يؤثر ذلك على الإنتاجية؟ أليس صاحب العمل هو المتضرر الأول عندما
يدفع العامل إلى مثل هذا التمارض.
وقبل ذلك نتساءل.. هل تساهم بيئة العمل فعلا في تفاقم
مثل هذه المشكلة؟ هذا ما بحثناه مع الخبير في الإنتاجية، الرئيس التنفيذي لمؤسسة (جافكون)
لتحسين الإنتاجية الدكتور أكبر جعفري الذي سألناه بداية: هل تعتبر نصف مليون إجازة
مرضية في عام واحد مشكلة كبيرة بالنسبة لمجتمع كالبحرين؟ يجيبنا جعفري: أولا ينبغي
أن نشير إلى أن هذا الرقم يقتصر على العيادات الحكومية فقط، مما يعني أن هناك إجازات
كثيرة لم تدخل في الإحصائية، وفي الحقيقة أن المشكلة ليست في الرقم بقدر ما هي في الإرباك
الذي تسببه مثل هذه الإجازات للعمل، فأنا على يقين بأن جزءا بسيطا لا يتعدى 25% من
هذا الرقم يكون مستحقا فعلا للإجازات، والباقي لا يحتاج إلى إجازة مرضية، ولكن ردا
على سؤالك عما إذا كان هذا الوضع يمثل حالة خطرة، فإنني لا اعتقد ذلك، ولكن الخطورة
تكمن في أن هذا الوضع يمثل احد المؤشرات التي تعكس بشكل غير مباشر طبيعة العلاقة بين
طرفي الإنتاج، فهناك عدم تكافؤ وتفاهم، لذلك يأتي رد الفعل بشكل غير مباشر، أي أنا
امرض ليس لأني مريض وإنما لأني لست مرتاحا بالعمل، فإذا لم يكن أمام العامل مجال للاعتراض
السليم أو إبداء وجهة النظر أو سبيل للراحة وتحسين ظروف العمل فإنه يلجأ إلى أساليب
ملتوية.
* أشرت إلى أن حوالي ربع هذه الأعداد هو فقط من يستحق الإجازات، على ماذا استندت
في هذا الرقم؟
** للأسف لا توجد إحصائيات دقيقة يمكن أن تحدد ذلك، ولكنها نسبة وتناسب
مع حالات عدم التواؤم التي خلصنا لها من خلال خبرتنا وتعاملاتنا الطويلة مع مختلف الشركات،
لذلك أتصور أن 25% فقط هي الحالات المرضية الحقيقية التي تستحق الإجازة وإلا تعرض الموضع
للضرر. الموارد البشرية
* إذن التوقعات تشير إلى أن أكثر من نصف الإجازات غير مستحقة،
في رأيك ما تأثير ذلك على العمل وعلى الإنتاجية في البحرين؟
** بالتأكيد سيكون له تأثير،
فالعلاقة طردية ومباشرة بين الحالات المرضية والإنتاجية سواء الكلية للاقتصاد أو الجزئية
للشركات أو لمصلحة ومستقبل الموظف نفسه، حيث يحدث شرخ في الهيكلة
الإنتاجية، وأي تأثير في هذه الهيكلة تكون الخسارة عامة للجوانب الثلاثة التي ذكرتها،
وهذا ما نقيسه بشكل مستمر من خلال تعاملاتنا والدراسات التي نجريها مع الشركات المختلفة،
فالإنتاجية تشمل الوارد الداخل بالإنتاج ومخرجات المؤسسة سواء كانت سلعا أو خدمات،
وهنا نجد أن العامل المشترك وذا الأهمية والوزن الكبير الذي يؤثر في الإنتاجية هو العامل
البشري، بل يتحكم بما لا يقل عن ثلثي التأثير، وهنا فإن أي خلل في هذه المنظومة داخل
المؤسسة فإن التأثير سيكون كبيرا ومباشرا وآنيا، وبالتالي فإن الضرر في هذه الحالات
قد يكون مؤلما وفادحا للمؤسسة، في حين ان تأثيرات الكثير من العوامل قد لا تكون مباشرة
أو آنية، لذلك نجد أن الضرر في هذه الحالات، وهذا ما يعيدنا إلى مسألة هامة هي التواؤم
بين الأطراف والتقاء المصالح، لذلك أقول أن طرفي الإنتاج بحاجة إلى الوعي، فصاحب العمل
مثلا قد تكون لديه أساليب إدارية لا تتفق مع طبيعة الوضع الحاضر، والعامل لا يعي تأثير
مثل هذا الأسلوب عليه، ومن ثم فإن العلاقة الإنسانية أساسية في التعامل، وربما في السابق
لم تكن هذه الحساسية للجوانب الإنسانية بنفس الضرورة كما هي اليوم، ولكننا نجد الآن
أن حوالي 64% من اهتمام أي شركة يُصب على الموارد البشرية.
ولكن للأسف هناك كثير من
الإدارات أو أصحاب العمل لا تمثل هذه الموارد لهم تلك الأهمية رغم أن نسبة كبيرة من
العمال اليوم لديهم وعي وتعليم اكبر، والشخص المتعلم لديه احتياجات نفسية وإصرار على
الاحترام أكثر، إذن هي أمور ذاتية نفسية أكثر منها مادية.
وإضافة إلى ما سبق هناك أسباب
لا ترتبط بالجانب النفسي الإنساني فقط وإنما بجو العمل مثل عدم ارتياح الموظف من موقع
العمل من الناحية المادية كوجود التلوث والغبار والأصوات المزعجة، وبالتالي يحدث صراع
داخلي لا شعوري لأنه يحتاج للوظيفة كمصدر دخل ولكن الأجواء المادية فيها غير مريحة،
أي يقع بين المطرقة والسندان، يريد الوظيفة ولكن لا يريد المكان، فتصدر منه حركات انعكاسية
قد تكون لا شعورية هي الأخرى، ومن ذلك أن يتمارض، والمشكلة أن كل من يتمارض سوف يمرض
وبالتالي يتحول الأمر إلى واقع حقيقي، وهذا ما يجعل من الصعب على الطبيب أو صاحب العمل
معرفة صدق الموظف من عدمه، وهذه النتيجة يؤكدها علماء النفس، فمن يمثل انه سعيد سيشعر
بالسعادة، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (لا تمارضوا فتمرضوا فتموتوا).
لذلك فإن الطبيب يجد أن كل العوامل الفسيولوجية أمامه تدل على أن العامل أو الموظف
مريض فعلا، ولكنه لا يستطيع أن يثبت ذلك أو يثبت أن هذا المرض نابع عن حالة سيكولوجية
تمارضية أو حالة مرضية حقيقية، وهذا ما كان ومازال موضع صدام بين الشركات والعيادات
الطبية، ورغم تقلص أعداد الحالات المرضية والإجازات فإن الأمر مازال مستمرا، وقد عملنا
قبل سنوات ندوة حول هذا الموضوع وكانت الخلاصة انه لا يمكن التحكم في هذه الحالات،
وإنما يكمن العلاج في إيجاد الوئام بين أطراف الإنتاجية.
نماذج من الواقع لا يكتفي
الدكتور أكبر بالسرد النظري، بل يسوق لنا حالات من الواقع شهدها عن قرب، وفي ذلك يقول:
في شهر أغسطس الماضي حيث الجو شديد الحرارة والرطوبة، كنت مارا بالسيارة على مصنع التكرير،
ولمحت شابا واقفا على الرصيف ينتظر أحدا يرحمه ويوصله، أركبته معي وكان يسكن مدينة
حمد، فأوصلته رغم أنها لم تكن في طريقي، وفي الطريق سألته عن أسباب وقوفه فأجاب بأن المقاول الذي يعمل عنده لا يوفر
لهم مواصلات. وهذا - يتابع الدكتور أكبر - هو مربط الفرس، فهذا الشاب وغيره كثيرون
يضطرون يوميا إلى الوقوف في الشارع على أمل أن يوصلهم أصحاب السيارات وخاصة انه ليس
لدينا مواصلات عامة دقيقة كالدول الأوروبية، وغالبا ما يضطر الواحد من هؤلاء الشباب
إلى تغيير ثلاث أو أربع سيارات حتى يصلوا إلى موقع العمل، وعندما يصل الواحد منهم في
حر الصيف أو برد الشتاء إلى العمل يكون منهكا من الأساس، فكيف ننتظر منه إنتاجية كبيرة؟
وبالتالي يكون رد فعل الطرف الآخر وهو صاحب العمل القسوة والنهر، فماذا يحدث هنا؟ بالطبع
ستحدث أساليب انعكاسية مثل التمارض، لأن العامل يعاني من كبت، بل قد تصل إلى إتلاف
بعض الآليات والموارد بشكل لا يمكن كشفه وكثيرا ما يكون بشكل تلقائي غير شعوري، والأسوأ
أن هذا ما قد يسبب حوادث في العمل.
ويسوق خبير الإنتاجية مثالا آخر عايشه عندما كان
يعمل في شركة ألبا، حيث لاحظوا تزايد حالات المرض أو التمارض في الفترات التي يشتد
فيها الحر، وهنا لجأت الشركة إلى أسلوب إنساني متحضر لعلاج المشكلة، فطالما انه لم
يكن بالإمكان تغيير الجو الحار، فقد قدمت الإدارة حوافز للحضور والعمل، والغريب انه
في نفس الشهر الذي طبقت فيه الحوافز وكان شهر أغسطس الذي يعتبر من أشرس شهور السنة
حرارة، اختفت الحالات (المرضية) و(التمارضية) بين يوم وليلة، بل انه حتى العمال الذين
كانوا بحاجة فعلية للإجازة فضلوا مواصلة العمل، وهنا وضعت الإدارة استثناءات لمن يثبت
انه بحاجة فعلية للإجازة، حيث لا يحرم من الحوافز. وهذا ما يؤكد أن التواؤم بين أطراف
الإنتاج هو الحل لمثل هذه الإشكالية.
مؤشر على الخلل المشكلة - والحديث متواصل للرئيس
التنفيذي لمؤسسة جافكون لتحسين الإنتاجية - أن هناك فهما مغلوطا للإجازة، فحسب القانون
من حق العامل أيام محددة في الشهر يأخذ فيها إجازة مرضية، ولكن البعض يتصور أن هذه
الأيام مستحقات يجب أن يحصل عليها، من دون أن يعي أن ذلك قد يؤثر على مستقبله وترقياته،
لذلك فإن الشركات الذكية تعمد إلى منح علاوات لمن لا يأخذ إجازات مرضية بشكل مستمر،
أي أن هناك أساليب حميدة يمكن أن نخفف بها حدة المشكلة التي لها آثار لا يمكن أن تكون
بسيطة، لأنه كما ذكرت في مقدمة كلامي أن المشكلة ليست في عدد الإجازات سواء كانت نصف
مليون أو مليونا وإنما في الإرباك الذي يحدث في العمل والإنتاجية، وهذا ما يجعل من
الضرورة بمكان أن يعي الجميع أن العلاقة في العمل ليست مجرد علاقة عمل وراتب، وإنما
باتت علاقة أشبه بالشراكة، والحل هو خلق أجواء مناسبة من الشراكة، وليس كما يفعل الكثير
من أرباب العمل الذين يحاولون حل المشكلة بشكل خاطئ من خلال الضغوط على العمال أو القسوة.
ويخلص الدكتور جعفري في طرحه هذا إلى أن الإجازة المرضية حق إنساني، إلا أن أي مكان
تحدث فيه حالات تمارضية فإن ذلك مؤشر على وجود خلل وكبت وعدم سلامة في بيئة العمل،
وكل هذا العدد من الإجازات سواء كانت حقيقية أو غير حقيقية هي حالات سلبية تضر الجميع،
وهذا لا يبرر لمن يتلاعب أو يتمارض، ولكن قبل محاسبته يجب حل الأسباب، وذلك يبدأ بالارتقاء
بأسلوب الإدارات والتعامل.
قانون
رقم (35) لسنة 2006 بإصدار قانون الخدمة المدنية
مرسوم
بإنشاء إدارة نظم المعلومات الإدارية في ديوان الخدمة المدنية
مرسوم
بإنشاء إدارة الشئون الإدارية والمالية في ديوان الخدمة المدنية
قرار
رقم (6) لسنة 1978 بشأن الإجازة السنوية