جريدة الوقت - 1423 الأربعاء 27 محرم 1431 هـ - 13 يناير 2010
في دراسة قانونية مطولة للمحامي محمد أحمد: «1-2»
غرفة «تسوية المنازعات» تهميش للقضاء البحريني.. وآليتها متحققة فعلاً
لا أسعى من خلال هذا المقال إلى الدفاع عن القضاء البحريني، إذ إنني لست معنياً بالاضطلاع
بهذا الدور، كما أنني لست متحمساً للقيام به. ولكنني أعتقد بأن هناك بعض الملاحظات
التي لابد من إثارتها وفتح الحوار بشأنها، وذلك فيما يتعلق بالمرسوم بقانون رقم (30)
لسنة 2009 الذي تم بموجبه إنشاء غرفة البحرين لتسوية المنازعات الاقتصادية والمالية
والاستثمارية، وذلك نظراً إلى ما يترتب على تطبيق هذا القانون من نتائج، سواء على القضاء
كسلطة عامة، أو على منظومة القوانين المدنية والتجارية. وقد صدر هذا المرسوم بتأسيس
غرفة تسوية المنازعات باعتبارها غرفة مستقلة تتمتع بالشخصية الاعتبارية ويتولى وزير
العدل الإشراف والرقابة الإدارية عليها. وطبقاً لنص المادة (9) من القانون فقد بات
من اختصاص هذه الغرفة الفصل في منازعات كان الاختصاص بنظرها والفصل فيها معقوداً في
الأصل لمحاكم البحرين أو للجنة فض المنازعات المنصوص عليها بموجب قانون مصرف البحرين
المركزي، وهي لجنة تختص بالفصل في المنازعات التي قد تثور بين البنوك أو شركات التأمين
وغيرها من المؤسسات المرخص لها من قبل مصرف البحرين المركزي، فأصبح من اختصاص غرفة
تسوية المنازعات الفصل في أي نزاع تزيد قيمة المطالبة فيه على خمسمئة ألف دينار، وذلك
إذا كان النزاع: .1 قائماً بين المؤسسات المالية المرخص لها بموجب أحكام قانون مصرف
البحرين المركزي، أو بينها وبين غيرها من المؤسسات والشركات الأخرى والأفراد. وبعبارة
أخرى فإن غرفة تسوية المنازعات باتت تختص بالفصل في أي منازعة تثور بين أحد البنوك
أو المؤسسات المالية أو إحدى شركات التأمين وبين أي مؤسسة بحرينية أو تاجر بحريني أو
مواطن أو مقيم طالما كان مبلغ النزاع يتجاوز خمسمئة ألف دينار. .2 أما الاختصاص الثاني
المنوط بغرفة تسوية المنازعات فيتمثل في المنازعات التجارية الدولية التي تزيد قيمة
المطالبة فيها عن خمسمئة ألف دينار. وطبقاً لنص المادة (9) من القانون، فإن المنازعة
تكون منازعة دولية «إذا كان مقر أحد أطراف النزاع أو المكان الذي ينفذ فيه جزءاً مهماً
من الالتزامات الناشئة عن العلاقة التجارية أو المكان الذي يكون لموضوع النزاع أوثق
الصلة به، واقعاً خارج المملكة». ونظراً إلى كون مثل هذا الاختصاص لغرفة تسوية المنازعات
قد لا يثير اهتمام القارئ غير المتخصص بالقدر الذي يثيره الاختصاص الأول، فإنني سأتجنب
الخوض فيه، كما أنني سأتجنب الخوض في الأحكام الخاصة باختصاصات غرفة تسوية المنازعات
باتفاق الأطراف، بمعنى أن تختص الغرفة بنظر المنازعات التي يتفق الأطراف على تسويتها
عن طريقها، وذلك لانعدام أي صلة بين ما يهدف هذا المقال إلى التنبيه إليه وبين رغبة
أي طرفين في عرض نزاعهما على الغرفة لكي تفصل فيه. المحاكم في الدرجة الثانية بعد غرفة
تسوية المنازعات إن النتيجة الأولى التي تترتب على تطبيق أحكام قانون غرفة البحرين
لتسوية المنازعات هي أن يتوارى دور القضاء المدني البحريني مع شديد الأسف، وأن يصبح
جهة قضائية أقل مرتبة وأدنى درجة من غرفة تسوية المنازعات، التي أصبحت هي الجهة الأكثر
تأهيلاً - طبقاً لمنطق القانون الذي أنشأها - لنظر المنازعات المالية والاقتصادية والاستثمارية
التي تزيد قيمتها على خمسمئة ألف دينار. وعليه، فإن محاكم البحرين تأتي في الدرجة الثانية
بعد غرفة تسوية المنازعات. وبهذا فقد أصبح القضاء عندنا - مع شديد احترامنا لأشخاصه
- أشبه بما يعرف في السينما المصرية بالممثل «السنيد» الذي يتوارى خلف بطل الفيلم ويكون
مجرد ظل له. ذلك أن الأصل في كل دول العالم المتحضر، وفي ظل الأنظمة القانونية المعروفة
كافة، أن القضاء الطبيعي هو الجهة الوحيدة التي تختص بالفصل في المنازعات القضائية،
سواء كانت هذه المنازعات منازعات مدنية أو تجارية أو إدارية أو كانت متعلقة بالجرائم
التي ترتكب بالمخالفة لأحكام القوانين الجزائية. ومع ذلك فإن هناك بعض الاستثناءات
التي ترد على هذا الأصل، وهي استثناءات تقتصر عادة على المنازعات المدنية والتجارية،
فيقر المشرّع اتفاق الخصوم في مثل هذه المنازعات على التحكيم كوسيلة لفض النزاع. أو
أن يحدد المشرع آلية معينة لحسم المنازعات التي تتميز بخصوصيات تستدعي استحداث وسائل
تستجيب لمثل هذه الخصوصيات، من دون مساس أو إخلال كبير بالقواعد العامة، ومن دون أن
يتم التوسع في هذه الآليات الاستثنائية إلى الدرجة التي تقترب من تشكيل محاكم «قطاع
خاص» أو بعبارة أخرى القيام بخصخصة جزئية لإحدى اختصاصات القضاء، وذلك على النحو الذي
ذهب إليه قانون غرفة تسوية المنازعات. وضع الخطط اللازمة لتطوير الجهاز القضائي لا
تهميشه لا يغير من هذا الرأي وتلك النتيجة المريرة القول إن الغاية من إصدار هذا القانون
هي إنشاء قضاء متخصص يتولى أمر الفصل في النزاعات المالية والاستثمارية المعقدة والتي
تستوجب توافر خبرات معينة في مجال الأنشطة المصرفية والمالية. فمثل هذه الحجة مردود
عليها بأن الواجب الأول للدولة، فيما يتعلق بالسلطة القضائية، يتمثل فيما نصت عليه
المادة (4) من الدستور من أن العدل، كأساس للحكم، هو دعامة تكفلها الدولة وتلتزم بالعمل
بها. ولا شك بأن أداء مثل هذه المسؤولية يتم من خلال سلطة قضائية قادرة على تحقيق العدالة
لكل مكونات المجتمع، سواء كانت هذه المكونات متمثلة في أفراد أو شركات أو بنوك أو مؤسسات
استثمارية أو تجارية. وتبعاً لذلك، فإن من واجب الدولة أن تعمل على رفد الجهاز القضائي
بالقدرات البشرية والإمكانات المادية والفنية كافة الكفيلة بتشكيل جهاز قضائي يستجيب
لحاجات المؤسسات المالية ولمتطلبات خطط التنمية الاقتصادية. ولعل إصدار مثل هذا القانون
- أي قانون غرفة تسوية المنازعات - هو إقرار، بشكل أو بآخر، بعجز الدولة عن إنجاز هذه
المهمة ذات الأثر الخطير والحاسم في كيان المجتمع البحريني، وهو ما يتوجب معه على الدولة
أن تشرع في وضع الخطط اللازمة لتطوير الجهاز القضائي، لا أن تضع قوانين تؤدي إلى تهميش
دور القضاء وتقليص اختصاصاته بالنسبة للقضايا التجارية والمالية، بل تؤدي إلى تكريس
السلبيات التي يعاني منها. حل تلك المنازعات عبر آلية مرنة تتسم بسرعة الفصل لا يغير
من هذا الرأي وتلك النتيجة المريرة ما تفضل به وزير العدل والشؤون الإسلامية، في اجتماع
لجنة الشؤون التشريعية والقانونية في مجلس الشورى، وهو بصدد عرض رأي الوزارة في مشروع
القانون، إذ قال إن «.. المملكة تحتضن عدداً كبيراً من المؤسسات المالية والمصرفية،
وحيث إنه من الطبيعي حدوث منازعات بين هذه المؤسسات، فكان لابد من العمل على حل تلك
المنازعات والقضايا عن طريق إيجاد آلية مرنة وسلسة تتسم بسرعة الفصل حفاظاً على بقاء
تلك الاستثمارات وعدم خروجها من المملكة..» (انظر التقرير الثامن للجنة الشؤون التشريعية
والمالية في مجلس الشورى والمؤرخ 22 أبريل/نيسان 2009 عن مشروع قانون إنشاء غرفة البحرين
لتسوية المنازعات والمنشور على موقع مجلس الشورى على الإنترنت). ذلك أن ما قرره وزير
العدل مردود عليه بأن مثل الآلية السريعة والسلسة لتسوية المنازعات بين البنوك والمؤسسات
المالية والاستثمارية التي طالب بتوافرها هي آلية موجودة وقائمة فعلاً من خلال المادة
(176) من قانون مصرف البحرين المركزي، والمتعلقة بفض المنازعات التي قد تثور بين أي
بنك أو مؤسسة استثمارية أو مصرفية أو شركة تأمين. وهي طبقاً لنص المادة (176)، آلية
سريعة وتتميز بتواجد من هم من ذوي الخبرة والكفاءة في مجال الأعمال المالية في عضوية
اللجنة المختصة بالفصل في مثل تلك المنازعات. فضلاً عن ذلك، فإنه إذا كانت الغاية من
إنشاء غرفة البحرين لتسوية المنازعات هي حل المنازعات بين المؤسسات المالية والمصرفية
من خلال آلية مرنة وسلسة على نحو ما قرر وزير العدل. إذاً فما الداعي لأن يمتد اختصاص
غرفة تسوية المنازعات لكي يشمل النزاعات التي قد تثور بين البنوك والأفراد والشركات
التجارية غير الخاضعة لاشتراطات الترخيص لها من قبل المصرف المركزي؟ هذا إضافة إلى
أن إلغاء آلية فض المنازعات المنصوص عليها بموجب قانون مصرف البحرين المركزي الصادر
في العام 2006 بموجب قانون غرفة تسوية المنازعات، هو أمر يخلق حالة من عدم الاستقرار
التشريعي. ومن عجب أن تقرير لجنة الشؤون التشريعية والقانونية بمجلس الشورى، آنف الذكر،
تضمن العبارة التالية «وقد توقع معالي وزير العدل والشؤون الإسلامية أن يدخل القانون
بعد إقراره حيز التنفيذ في شهر أكتوبر القادم وخصوصاً أن مقر الغرفة قد تم تجهيزه»،
وأترك للقارئ الكريم تقدير دلالات هذه العبارة التي تكشف عن أن مقر الغرفة قد أصبح
جاهزاً حتى قبل مناقشة القانون وإقراره وإصداره. فتح باب «استيراد القضاة» لا يغير
من النتيجة السلبية على القضاء البحريني من تطبيق أحكام هذا القانون القول إنه - أي
القانون - اشترط أن يضم تشكيل هيئة تسوية النزاع قاضياً أو أكثر يندبه المجلس الأعلى
للقضاء بطلب من الوزير، وأنه «يراعى» أن تكون الغلبة في التشكيل للعنصر القضائي. ذلك
أن النتيجة النهائية المتحصلة من سنّ أحكام هذا القانون وتطبيقها هي غل يد القضاء البحريني
عن نظر منازعات كانت تدخل ضمن اختصاصاته الأصيلة باعتباره قضاءً طبيعياً يمارس ولايته
بموجب أحكام قانون المرافعات. وتترتب على هذه النتيجة نتيجة أخرى تتمثل فيما يمكن تسميته
بفتح باب «استيراد القضاة». ذلك أن تعريف «هيئة تسوية النزاع» طبقاً لما هو وارد في
المادة الأولى من القانون يجعل الباب مفتوحاً على مصراعيه لأن يدخل في تشكيل هيئة قضائية
- وليس هيئة تحكيم - أشخاص لا ينتمون إلى سلك القضاء البحريني، ومع ذلك فإنهم يصدرون
أحكاماً، لا يجوز استئنافها، في نزاع قائم بين أطراف ينتمون للجنسية البحرينية. هذا
إلى جانب أن القانون أجاز الاتفاق على تطبيق قانون أجنبي على نزاع ناشئ بين أطراف وطنية
بحرينية، وهذا ما يجعل من القاضي البحريني عضو هيئة تسوية النزاع، في حال تطبيق قانون
أجنبي وفي ظل وجود قضاة لا ينتمون للقضاء البحريني، مجرد تكملة عدد من دون أن يكون
له دور حقيقي في المداولة وإصدار الحكم. ذلك أنه لن يتمكن، بحكم تكوينه وخبرته، من
فهم وتطبيق القانون الأجنبي على النحو الذي يفهمه القاضي أو المحامي الأجنبي الذي تم
«استيراده» من البلد ذاته الذي سيطبق قانونه على النزاع. وقد سبق في العام 2006 أن
تم فتح باب «استيراد المحامين»، وذلك بموجب «المرسوم» بقانون رقم (77) الذي أجرى تعديلاً
على قانون المحاماة تم بموجبه السماح لغير المحامين البحرينيين بممارسة مهنة الإفتاء
في القانون البحريني بعد أن كان ذلك مقصوراً على المحامي البحريني، وهي خطوة لم يستفد
منها من الناحية الواقعية سوى كبار الملاك العقاريين الذين استأجرت منهم بعض الشركات
القانونية الأجنبية مكاتب لها ومساكن لموظفيها، كما شكّلت نوعاً من المزاحمة لبعض مكاتب
المحاماة البحرينية، من دون أن يكون لهذه المكاتب الأجنبية أي دور إيجابي ملموس في
المهنة القانونية، بل ربما يكون قانون غرفة تسوية المنازعات هو إحدى بدعهم.